سورة النساء - تفسير تفسير النسفي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


ولما لم يؤمنوا نزل {يَأَيُّهَا الذين أُوتُواْ الكتاب ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا} يعني القرآن {مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ} يعني التوراة {مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً} أي نمحو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم {فَنَرُدَّهَا على أدبارها} فنجعلها على هيئة أدبارها وهي الأقفاء مطموسة مثلها. والفاء للتسبيب، وإن جعلتها للتعقيب على أنهم تُوُعدوا بعقابين أحدهما عقيب الآخر، ردها على أدبارها بعد طمسها فالمعنى: أن نطمس وجوهاً فننكس الوجوه إلى خلف والأقفاء إلى قدام. وقيل: المراد بالطمس القلب والتغيير كما طمس أموال القبط فقلبها حجارة، وبالوجوه رؤوسهم ووجهاؤهم أي من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلبهم إقبالهم ووجاهتهم ونكسوهم صغارهم وإدبارهم {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أصحاب السبت} أي نخزيهم بالمسخ كما مسخنا أصحاب السبت. والضمير يرجع إلى الوجوه إن أريد الوجهاء، أو إلى الذين أوتوا الكتاب على طريقة الالتفات. والوعيد كان معلقاً بأن لا يؤمن كلهم وقد آمن بعضهم فإن ابن سلام قد سمع الآية قافلاً من الشام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم مسلماً قبل أن يأتي أهله وقال: ما كنت أرى أن أصل إلى أهلي قبل أن يطمس الله وجهي. أو أن الله تعالى أوعدهم بأحد الأمرين: بطمس الوجوه أو بلعنهم، فإن كان الطمس تبدل أحوال رؤسائهم فقد كان أحد الأمرين، وإن كان غيره فقد حصل اللعن فإنهم ملعونون بكل لسان. وقيل: هو منتظر في اليهود {وَكَانَ أَمْرُ الله} أي المأمور به وهو العذاب الذي أوعدوا به {مَفْعُولاً} كائناً لا محالة فلا بد أن يقع أحد الأمرين إن لم يؤمنوا.
{إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} إن مات عليه {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} أي ما دون الشرك وإن كان كبيرة مع عدم التوبة، والحاصل أن الشرك مغفور عنه بالتوبة، وأن وعد غفران ما دونه لمن لم يتب أي لا يغفر لمن يشرك وهو مشرك ويغفر لمن يذنب وهو مذنب. قال النبي عليه السلام: «من لقي الله تعالى لا يشرك به شيئاً دخل الجنة ولم تضره خطيئته» وتقييده بقوله {لِمَن يَشَاءُ} لا يخرجه عن عمومه كقوله: {الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاء} [الشورى: 19]. قال علي رضي الله عنه: ما في القرآن آية أحب إليّ من هذه الآية. وحمل المعتزلة على التائب باطل لأن الكفر مغفور عنه بالتوبة لقوله تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]. فما دونه أولى من أن يغفر بالتوبة. والآية سيقت لبيان التفرقة بينهما وذا فيما ذكرنا {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً} كذب كذباً عظيماً استحق به عذاباً أليماً.
ونزل فيمن زكى نفسه من اليهود والنصارى حيث قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]. {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى} [البقرة: 111]. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ} ويدخل فيها كل من زكى نفسه ووصفها بزكاء العمل وزيادة الطاعة والتقوى {بَلِ الله يُزَكِّي مَن يَشَاءُ} إعلام بأن تزكية الله هي التي يعتد بها لا تزكية غيره لأنه هو العالم بمن هو أهل للتزكية ونحوه: {فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى} [النجم: 32]. {وَلاَ يُظْلَمُونَ} أي الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكية أنفسهم حق جزائهم، أو من يشاء يثابون على زكائهم ولا ينقص من ثوابهم {فَتِيلاً} قدر فتيل وهو ما يحدث بفتل الأصابع من الوسخ. {انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ} في زعمهم أنهم عند الله أزكياءٌ {وكفى بِهِ} بزعمهم هذا {إِثْماً مُّبِيناً} من بين سائر آثامهم.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب} يعني اليهود {يُؤْمِنُونَ بالجبت} أي الأصنام وكل ما عبدوه من دون الله {والطاغوت} الشيطان {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هؤلاء أهدى مِنَ الذين ءَامَنُواْ سَبِيلاً} وذلك أن حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف اليهوديين خرجا إلى مكة مع جماعة من اليهود يحالفون قريشاً على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أنتم أهل الكتاب وأنتم إلى محمد أقرب منا وهو أقرب منكم إلينا فلا نأمن مكركم، فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ففعلوا، فهذا إيمانهم بالجبت والطاغوت لأنهم سجدوا للأصنام وأطاعوا إبليس عليه اللعنة فيما فعلوا. فقال أبو سفيان: أنحن أهدى سبيلاً أم محمد؟ فقال كعب: أنتم أهدى سبيلاً. {أولئك الذين لَعَنَهُمُ الله} أبعدهم من رحمته {وَمَن يَلْعَنِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} يعتد بنصره. ثم وصف اليهود بالبخل والحسد وهما من شر الخصال، يمنعون ما لهم ويتمنون ما لغيرهم فقال: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ الملك} ف {أم} منقطعة ومعنى الهمزة الإنكار أن يكون لهم نصيب من الملك {فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ الناس نَقِيراً} أي لو كان لهم نصيب من الملك أي ملك أهل الدينا أو ملك الله فإذا لا يؤتون أحداً مقدار نقير لفرط بخلهم، والنقير: النقرة في ظهر النواة وهو مثل في القلة كالفتيل.
{أَمْ يَحْسُدُونَ الناس عَلَى مَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ} بل أيحسدون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على إنكار الحسد واستقباحه، وكانوا يحسدونهم على ما آتاهم الله من النصرة والغلبة وازدياد العز والتقدم كل يوم {فَقَدْ ءَاتَيْنَا ءالَ إبراهيم الكتاب} أي التوراة {والحكمة} الموعظة والفقه {وءتيناهم مُّلْكاً عَظِيماً} يعني ملك يوسف وداود وسليمان عليهم السلام، وهذا إلزام لهم بما عرفوه من إيتاء الله الكتاب والحكمة آل إبراهيم الذين هم أسلاف محمد عليه السلام، وأنه ليس ببدع أن يؤتيه الله مثل ما أوتي أسلافه {فَمِنْهُمْ مَّنْ ءَامَنَ بِهِ} فمن اليهود من آمن بما ذكر من حديث آل إبراهيم {وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ} وأنكره مع علمه بصحته، أو من اليهود من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم من أنكر نبوته وأعرض عنه {وكفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً} للصادين.
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ بئاياتنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ} ندخلهم {نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} أحرقت {بدلناهم جُلُوداً غَيْرَهَا} أعدنا تلك الجلود غير محترقة، فالتبديل والتغيير لتغاير الهيئتين لا لتغاير الأصلين عند أهل الحق خلافاً للكرامية. وعن فضيل: يجعل النضيج غير نضيج {لِيَذُوقُواْ العذاب} ليدوم لهم ذوقه ولا ينقطع كقولك للعزيز: (أعزك الله) أي أدامك على عزك {إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً} غالباً بالانتقام لا يمتنع عليه شيء مما يريده بالمجرمين {حَكِيماً} فيما يفعل بالكافرين {والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَنُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَداً لَّهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ} من الأنجاس والحيض والنفاس {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} هو صفة مشتقة من لفظ الظل لتأكيد معناه كما يقال: (ليل أليل) وهو ماكان طويلاً فيناناً لا وجوب فيه ودائماً لا تنسخه الشمس وسجسجاً لا حر فيه ولا برد، وليس ذلك إلا ظل الجنة.
ثم خاطب الولاة بأداء الأمانات والحكم بالعدل بقوله:
{إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إِلَى أَهْلِهَا} وقيل: قد دخل في هذا الأمر أداء الفرائض التي هي أمانة الله تعالى التي حملها الإنسان، وحفظ الحواس التي هي ودائع الله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس} قضيتم {أَن تَحْكُمُواْ بالعدل} بالسوية والإنصاف. وقيل: إن عثمان بن طلحة بن عبد الدار كان سادن الكعبة وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منه مفتاح الكعبة، فلما نزلت الآية أمر علياً رضي الله عنه بأن يرده إليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد أنزل الله في شأنك قرآناً» وقرأ عليه الآية فأسلم عثمان فهبط جبريل عليه السلام وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن السدانة في أولاد عثمان أبداً {إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} {ما} نكرة منصوبة موصوفة ب {يعظكم به} كأنه قيل: نعم شيئاً يعظكم به، أو موصولة مرفوعة المحل صلتها ما بعدها أي نعم الشيء الذي يعظكم به. والمخصوص بالمدح محذوف أي نعّما يعظكم به ذلك وهو المأمور به من أداء الأمانات والعدل في الحكم. وبكسر النون وسكون العين: مدني وأبو عمرو، وبفتح النون وكسر العين: شامي وحمزة وعلي.
{إِنَّ الله كَانَ سَمِيعاً} لأقوالكم {بَصِيراً} بأعمالكم.
ولما أمر الولاة بأداء الأمانات والحكم بالعدل أمر الناس بأن يطيعوهم بقوله {ياأيها الذين ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ} أي الولاة أو العلماء لأن أمرهم ينفذ على الأمر {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَيْءٍ} فإن اختلفتم أنتم وأولو الأمر في شيء من أمور الدين {فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول} أي ارجعوا فيه إلى الكتاب والسنة {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} أي إن الإيمان يوجب الطاعة دون العصيان، ودلت الآية على أن طاعة الأمراء واجبة إذا وافقوا الحق فإذا خالفوه فلا طاعة لهم لقوله عليه السلام: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق». وحكي أن مسلمة بن عبد الملك بن مروان قال لأبي حازم: ألستم أمرتم بطاعتنا بقوله: و{أولي الأمر منكم}؟ فقال أبو حازم: أليس قد نزعت الطاعة عنكم إذا خالفتم الحق. بقوله {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله} أي القرآن و{الرسول} في حياته وإلى أحاديثه بعد وفاته {ذلك} إشارة إلى الرد أي الرد إلى الكتاب والسنة {خَيْرٌ} عاجلاً {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} عاقبة كان بين بشر المنافق ويهودي خصومة، فدعاه اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم لعلمه أنه لا يرتشي ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف ليرشوه، فاحتكما إلى النبي عليه السلام فقضى لليهودي فلم يرض المنافق وقال: تعال نتحاكم إلى عمر. فقال اليهودي لعمر رضي الله عنه: قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرض بقضائه. فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ قال: نعم. فقال عمر: مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل عمر فأخذ سيفه ثم خرج فضرب به عنق المنافق فقال: هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله فنزل.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} وقال جبريل عليه السلام: إن عمر فرق بين الحق والباطل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنت الفاروق» {يُرِيدُونَ} حال من الضمير في{يزعمون} {أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطاغوت} أي كعب بن الأشرف سماه الله طاغوتاً لإفراطه في الطغيان وعداوة رسول الله عليه السلام، أو على التشبيه بالشيطان، أو جعل اختيار التحاكم إلى غير رسول الله صلى الله عليه وسلم على التحاكم إليه تحاكماً إلى الشيطان بدليل قوله {وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشيطان أَن يُضِلَّهُمْ} عن الحق {ضلالا بَعِيداً} مستمراً إلى الموت {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} للمنافقين {تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول} للتحاكم {رَأَيْتَ المنافقين يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} يعرضون عنك إلى غيرك ليغروه بالرشوة فيقضي لهم {فَكَيْفَ} تكون حالهم وكيف يصنعون {إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ} من قتل عمر بشرا {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} من التحاكم إلى غيرك واتهامهم لك في الحكم {ثُمَّ جَاءُوكَ} أي أصحاب القتيل من المنافقين {يَحْلِفُونَ بالله} حال {إِنْ أَرَدْنَا} ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك {إِلاَّ إِحْسَاناً} لا إساءة {وَتَوْفِيقاً} بين الخصمين ولم نرد مخالفة لك ولا تسخطاً لحكمك، وهذا وعيد لهم على فعلهم وأنهم سيندمون عليه حين لا ينفعهم الندم ولا يغني عنهم الاعتذار.
وقيل: جاء أولياء المنافق يطلبون بدمه وقد أهدره الله فقالوا: ما أردنا بالتحاكم إلى عمر إلا أن يحسن إلى صاحبنا بحكومة العدل والتوفيق بينه وبين خصمه، وما خطر ببالنا أنه يحكم له بما حكم به.


{أُولَئِكَ الذين يَعْلَمُ الله مَا فِى قُلُوبِهِمْ} من النفاق. {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} فأعرض عن قبول الأعذار وعظ بالزجر والإنكار وبالغ في وعظهم بالتخويف والإنذار، أو أعرض عن عقابهم وعظهم في عتابهم وبلغ كنه ما في ضميرك من الوعظ بارتكابهم. والبلاغة أن يبلغ بلسانه كنه ما في جنانه. و{في أنفسهم} يتعلق ب {قل لهم} أي قل لهم في معنى أنفسهم الخبيثة وقلوبهم المطوية على النفاق قولاً بليغاً منهم ويؤثر فيهم.
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ} أي رسولاً قط {إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله} بتوفيقه في طاعته وتيسيره، أو بسبب إذن الله في طاعته وبأنه أمر المبعوث إليهم بأن يطيعوه لأنه مؤد عن الله فطاعته طاعة الله {وَمَن يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: 80] {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} بالتحاكم إلى الطاغوت {جَاءُوكَ} تائبين من النفاق معتذرين عما ارتكبوا من الشقاق {فاستغفروا الله} من النفاق والشقاق {واستغفر لَهُمُ الرسول} بالشفاعة لهم. والعامل في {إذ ظلموا} خبر {أنّ} وهو {جاؤوك} والمعنى: ولو وقع مجيئهم في وقت ظلمهم مع استغفارهم واستغفار الرسول {لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً} لعلموه تواباً أي لتاب عليهم. ولم يقل {واستغفرت لهم} وعدل عنه إلى طريقة الالتفات تفخيماً لشأنه صلى الله عليه وسلم وتعظيماً لاستغفاره وتنبيهاً على أن شفاعة من اسمه الرسول من الله بمكان {رَّحِيماً} بهم. قيل: جاء أعرابي بعد دفنه عليه السلام فرمى بنفسه على قبره وحثا من ترابه على رأسه وقال: يا رسول الله، قلت فسمعنا وكان فيما أنزل عليك: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم} الآية. وقد ظلمت نفسي وجئتك أستغفر الله من ذنبي فاستغفر لي من ربي، فنودي من قبره قد غفر لك.
{فَلاَ وَرَبّكَ} أي فوربك كقوله {فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ} [الحجر: 92] {ولا} مزيدة لتأكيد معنى القسم وجواب القسم {لاَ يُؤْمِنُونَ} أو التقدير: فلا أي ليس الأمر كما يقولون ثم قال: {وربك لا يؤمنون} {حتى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} فيما اختلف بينهم واختلط ومنه الشجر لتداخل أغصانه {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً} ضيقاً {مّمَّا قَضَيْتَ} أي لا تضيق صدورهم من حكمك أو شكًّا، لأن الشاك في ضيق من أمره حتى يلوح له اليقين {وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً} وينقادوا لقضائك انقياداً وحقيقته. سلم نفسه له وأسلمها أي جعلها سالمة له أي خاصة. وتسليماً مصدر مؤكد للفعل بمنزلة تكريره كأنه قيل: وينقادوا لحكمك انقياداً لا شبهة فيه بظاهرهم وباطنهم، والمعنى لا يكونون مؤمنين حتى يرضوا بحكمك وقضائك {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} على المنافقين أي ولو وقع كتبنا عليهم {أَنِ اقتلوا} {أن} هي المفسرة {أَنفُسَكُمْ} أي تعرضوا للقتل بالجهاد.
أو ولو أوجبنا عليهم مثل ما أوجبنا على بني إسرائيل من قتلهم أنفسهم {أَوِ اخرجوا مِن دياركم} بالهجرة {مَّا فَعَلُوهُ} لنفاقهم. والهاء ضمير أحد مصدري الفعلين وهو القتل أو الخروج أو ضمير المكتوب لدلالة كتبنا {عليه} {إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ} {قليلاً}: شامي على الاستثناء والرفع على البدل من واو {فعلوه} {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ} من اتباع رسول الله عليه السلام والانقياد لحكمه {لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} في الدارين {وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} لإيمانهم وأبعد عن الاضطراب فيه {وَإِذَاً} جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: وماذا يكون لهم بعد التثبيت؟ فقيل: وإذا لو ثبتوا {لاتيناهم مّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً} أي ثواباً كثيراً لا ينقطع.
{ولهديناهم صراطا} مفعول ثانٍ {مُّسْتَقِيماً} أي لثبتناهم على الدين الحق {وَمَن يُطِعِ الله والرسول فَأُوْلَئِكَ مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مّنَ النبيين والصديقين} كأفاضل صحابة الأنبياء. والصديق: المبالغ في صدق ظاهره بالمعاملة وباطنه بالمراقبة، أو الذي يصدق قوله بفعله {والشهداء} والذين استشهدوا في سبيل الله {والصالحين} ومن صلحت أحوالهم وحسنت أعمالهم {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} أي وما أحسن أولئك رفيقاً وهو كالصديق والخليط في استواء الواحد والجمع فيه {ذلك} مبتدأ خبره {الفضل مِنَ الله} أو{الفضل} صفته و{من الله} خبره والمعنى: أن ما أعطى المطيعون من الأجر العظيم ومرافقة المنعم عليهم من الله لأنه تفضل به عليهم، أو أراد أن فضل المنعم عليهم ومزيتهم من الله. {وكفى بالله عَلِيماً} بِعِبَادِهِ وَبِمَن هُوَ أَهْلُ الفضل ودلت الآية على أن ما يفعل الله بعباده فهو فضل منه بخلاف ما يقوله المعتزلة {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ} الحذر والحذر بمعنى وهو التحرز وهما كالإثر والأثر. يقال: أخذ حذره إذا تيقظ، واحترز من المخوف كأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه ويعصم بها روحه، والمعنى احذروا واحترزوا من العدو {فانفروا ثُبَاتٍ} فاخرجوا إلى العدو جماعات متفرقة سرية بعد سرية، فالثباب الجماعات واحدها ثبة. {أَوِ انفروا جَمِيعاً} أي مجتمعين أو مع النبي عليه السلام، لأن الجمع بدون السمع لا يتم، والعقد بدون الواسطة لا ينتظم. أو انفروا ثباتٍ إذا لم يعم النفير، أو انفروا جميعاً إذا عم النفير. وثبات {حال} وكذا {جميعاً}. واللام في {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن} للابتداء بمنزلتها في {إِنَّ الله لَغَفُورٌ} [النحل: 18] و{من} موصولة. وفي {لَّيُبَطّئَنَّ} جواب قسم محذوف تقديره: وإن منكم لمن أقسم بالله ليبطئن والقسم وجوابه صلة من، والضمير الراجع منها إليه ما استكنّ في {لَّيُبَطّئَنَّ} أي ليتثاقلن وليتخلفن عن الجهاد، وبطؤ بمعنى أبطأ أي تأخر ويقال: (ما بطؤ بك) فيتعدى بالباء.
والخطاب لعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله {منكم}أي في الظاهر دون الباطن يعني المنافقين يقولون لم تقتلون أنفسكم تأنوا حتى يظهر الأمر {فَإِنْ أصابتكم مُّصِيبَةٌ} قتل أو هزيمة {قَالَ} المبطئ {قَدْ أَنْعَمَ الله عَلَىَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً} {حاضر} فيصيبني مثل ما أصابهم {وَلَئِنْ أصابكم فَضْلٌ مِنَ الله} فتح أو غنيمة {لَّيَقُولَنَّ} هذا المبطئ متلهفاً على ما فاته من الغنمية لا طلباً للمثوبة {كَأنَ} مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي كأنه {لََّمْ تَكُنْ} وبالتاء مكي وحفص {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} وهي اعتراض بين الفعل وهو{ليقولن} وبين مفعوله وهو {ياليتنى كُنتُ مَعَهُمْ} والمعنى: كأن لم يتقدم له معكم موادة لأن المنافقين كانوا يوادون المؤمنين في الظاهر وإن كانوا يبغون لهم الغوائل في الباطن {فَأَفُوزَ} بالنصب لأنه جواب التمني {فَوْزاً عَظِيماً} فآخذ من الغنيمة حظاً وافراً.
{فَلْيُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ الله الذين يَشْرُونَ} يبيعون {الحياة الدنيا بالأخرة} والمراد المؤمنون الذين يستحبون الحياة الآجلة على العاجلة ويستبدلونها بها، أي إن صد الذين مرضت قلوبهم وضعفت نياتهم عن القتال فليقاتل الثابتون المخلصون أو يشترون، والمراد المنافقون الذين يشترون الحياة الدنيا بالآخرة، وعطفوا بأن يغيروا ما بهم من النفاق ويخلصوا الإيمان بالله ورسوله ويجاهدوا في سبيل الله حق جهاده {وَمَن يقاتل فِى سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} وعد الله المقاتل في سبيل الله ظافراً أو مظفوراً به إيتاء الأجر العظيم على اجتهاده في إعزاز دين الله. {وَمَا لَكُمْ} مبتدأ وخبر، وهذا الاستفهام في النفي للتنبيه على الاستبطاء، وفي الإثبات للإنكار {لاَ تقاتلون فِى سَبِيلِ الله} حال والعامل فيها الاستقرار كما تقول (مالك قائماً) والمعنى وأي شيء لكم تاركين القتال وقد ظهرت دواعيه {والمستضعفين} مجرور بالعطف على {سبيل الله} أي في سبيل الله وفي خلاص المستضعفين، أو منصوب على الاختصاص منه أي واختص من سبيل الله خلاص المستضعَفين من المستضعِفين، لأن سبيل الله عام في كل خير، وخلاص المسلمين من أيدي الكفار من أعظم الخير وأخصه. والمستضعفون هم الذين أسلموا بمكة وصدهم المشركون عن الهجرة فبقوا بين أظهرهم مستذلين مستضعفين يلقون منهم الأذى الشديد {مِنَ الرجال والنساء والولدان} ذكر الولدان تسجيلاً بإفراط ظلمهم حيث بلغ أذاهم الولدان غير المكلفين إرغاماً لآبائهم وأمهاتهم، ولأن المستضعفين كانوا يشركون صبيانهم في دعائهم استنزالاً لرحمة الله بدعاء صغارهم الذين لم يذنبوا كما فعل قوم يونس عليه السلام. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان {الذين يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هذه القرية} يعني مكة {الظالم أَهْلُهَا} {الظالم} وصف للقرية إلا أنه مسند إلى أهلها فأعطي إعراب القرية لأنه صفتها وذكر لإسناده إلى الأهل كما تقول (من هذه القرية التي ظلم أهلها) {واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً} يتولى أمرنا ويستنقذنا من أعدائنا {واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً} ينصرنا عليهم.
كانوا يدعون الله بالخلاص ويستنصرونه فيسر الله لبعضهم الخروج إلى المدينة وبقي بعضهم إلى الفتح حتى جعل الله لهم من لدنه خير ولي وناصر وهو محمد عليه السلام، فتولاهم أحسن التولي ونصرهم أقوى النصر. ولما خرج محمد صلى الله عليه وسلم استعمل عتاب بن أسيد فرأوا منه الولاية والنصرة كما أرادوا. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان ينصر الضعيف من القوي حتى كانوا أعز بها من الظلمة.
ثم رغب الله المؤمنين بأنهم يقاتلون في سبيل الله فهو وليهم وناصرهم، وأعداؤهم يقاتلون في سبيل الشيطان فلا ولي لهم إلا الشيطان بقوله {الذين ءامَنُواْ يقاتلون فِى سَبِيلِ الله والذين كَفَرُواْ يقاتلون فِى سَبِيلِ الطاغوت} أي الشيطان {فقاتلوا أَوْلِيَاء الشيطان} أي الكفار {إِنَّ كَيْدَ الشيطان} أي وساوسه. وقيل: الكيد السعي في فساد الحال على جهة الاحتيال {كَانَ ضَعِيفاً} لأنه غرور لا يؤول إلى محصول، أو كيده في مقابلة نصر الله ضعيف. كان المسلمون مكفوفين عن القتال مع الكفار ما داموا بمكة وكانوا يتمنون أن يؤذن لهم فيه فنزل.


{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ} أي عن القتال {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكواة فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال} أي فرض بالمدينة {إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله} يخافون أن يقاتلهم الكفار كما يخافون أن ينزل الله عليهم بأسه، لا شكاً في الدين ولا رغبة عنه ولكن نفوراً عن الإخطار بالأرواح وخوفاً من الموت. قال الشيخ أبو منصور رحمه الله: هذه خشية طبع لا أن ذلك منهم كراهة لحكم الله وأمره اعتقاداً، فالمرء مجبول على كراهة مافيه خوف هلاكه غالباً، وخشية الله من إضافة المصدر إلى المفعول ومحله النصب على الحال من الضمير في {يخشون} أي يخشون الناس مثل خشية أهل الله أي مشبهين لأهل خشية الله {أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} هو معطوف على الحال أي أو أشد خشية من أهل خشية الله وأو للتخيير أي إن قلت؛ خشيتهم الناس كخشية الله فأنت مصيب، وإن قلت: إنها أشد فأنت مصيب لأنه حصل لهم مثلها وزيادة.
{وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القتال لَوْلا أَخَّرْتَنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} هلا أمهلتنا إلى الموت فنموت على الفرش، وهو سؤال عن وجه الحكمة في فرض القتال عليهم لا اعتراض لحكمه بدليل أنهم لم يوبخوا على هذا السؤال بل أجيبوا بقوله {قُلْ متاع الدنيا قَلِيلٌ والأخرة خَيْرٌ لّمَنِ اتقى} متاع الدنيا قليل زائل ومتاع الآخرة كثير دائم، والكثير إذا كان على شرف الزوال فهو قليل فكيف القليل الزائل! {وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} ولا تنقصون أدنى شيء من أجوركم على مشاق القتل فلا ترغبوا عنه. وبالياء: مكي وحمزة وعلي. ثم أخبر أن الحذر لا ينجي من القدر بقوله:
{أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت} {ما} زائدة لتوكيد معنى الشرط في {أين} {وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ} حصون أو قصور {مُّشَيَّدَةٍ} مرفعة {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} نعمة من خصب ورخاء {يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله} نسبوها إلى الله {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ} بلية من قحط وشدة {يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ} أضافوها إليك وقالوا. هذه من عندك وما كانت إلا بشؤمك، وذلك أن المنافقين واليهود كانوا إذا أصابهم خير حمدوا الله تعالى، وإذا أصابهم مكروه نسبوه إلى محمد صلى الله عليه وسلم فكذبهم الله تعالى بقوله {قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله} والمضاف إليه محذوف أي كل ذلك فهو يبسط الأرزاق ويقبضها {فَمَالِ هَؤُلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ} يفهمون {حَدِيثاً} فيعلمون أن الله هو الباسط القابض وكل ذلك صادر عن حكمة. ثم قال: {مَا أَصَابَكَ} يا إنسان خطاباً عاماً. وقال الزجاج: المخاطب به النبي عليه السلام والمراد غيره {مِنْ حَسَنَةٍ} من نعمة وإحسان {فَمِنَ الله} تفضلاً منه وامتناناً {وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ} من بلية ومصيبة {فَمِن نَّفْسِكَ} فمن عندك أي فبما كسبت يداك.
{وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ فِيمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]. {وأرسلناك لِلنَّاسِ رَسُولاً} لا مقدراً حتى نسبوا إليك الشدة، أو أرسلناك للناس رسولاً فإليك تبليغ الرسالة وليس إليك الحسنة والسيئة {وكفى بالله شَهِيداً} بأنك رسوله، وقيل: هذا متصل بالأول أي يكادون يفقهون حديثاً يقولون ما أصابك. وحمل المعتزلة الحسنة والسيئة في الآية الثانية على الطاعة والمعصية تعسف بيّن وقد نادى عليه ما أصابك إذ يقال في الأفعال {ما أصبت} ولأنهم لا يقولون الحسنات من الله خلقاً وإيجاداً فأنى يكون لهم حجة في ذلك؟ {وشهيداً} تمييز.
{مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} لأنه لا يأمر ولا ينهى إلا بما أمر الله به ونهى عنه، فكانت طاعته في أوامره ونواهيه طاعة لله {وَمَن تولى} عن الطاعة فأعرض عنه {فَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} تحفط عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها وتعاقبهم.
{وَيَقُولُونَ} ويقول المنافقون إذا أمرتهم بشيء {طَاعَةٌ} خبر مبتدأ محذوف أي أمرنا وشأننا طاعة {فَإِذَا بَرَزُواْ} خرجوا {مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ} زور وسوّى فهو من البيتوتة لأنه قضاء الأمر وتدبيره بالليل، أو من أبيات الشعر لأن الشاعر يدبرها ويسويها. وبالإدغام: حمزة وأبو عمرو. {غَيْرَ الذى تَقُولُ} خلاف ما قلت وما أمرت به أو خلاف ما قالت وما ضمنت من الطاعة، لأنهم أبطنوا الرد لا القبول والعصيان لا الطاعة وإنما ينافقون بما يقولون ويظهرون. {والله يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ} يثبته في صحائف أعمالهم ويجازيهم عليه {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} ولا تحدث نفسك بالانتقام منهم {وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} في شأنهم فإن الله يكفيك مضرتهم وينتقم لك منهم إذا قوي أمر الإسلام {وكفى بالله وَكِيلاً} كافياً لمن توكل عليه {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان} أفلا يتأملون معانيه ومبانيه. والتدبر: التأمل والنظر في أدبار الأمر وما يؤول إليه في عاقبته ثم استعمل في كل تأمل. والتفكر: تصرف القلب بالنظر في الدلائل وهذا يرد قول من زعم من الروافض أن القرآن لا يفهم معناه إلا بتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم والإمام المعصوم، ويدل على صحة القياس وعلى بطلان التقليد. {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله} كما زعم الكفار {لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} أي تناقضاً من حيث التوحيد والتشريك والتحليل والتحريم، أو تفاوتاً من حيث البلاغة فكان بعضه بالغاً حد الإعجاز وبعضه قاصراً عنه يمكن معارضته، أو من حيث المعاني فكان بعضه إخباراً بغيب قد وافق المخبر عنه، وبعضه إخباراً مخالفاً للمخبر عنه، وبعضه دالاً على معنى صحيح عند علماء المعاني، وبعضه دالاً على معنى فاسد غير ملتئم.
وأما تعلق الملحدة بآيات يدعون فيها اختلافاً كثيراً من نحو قوله: {فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} [الأعراف: 107] {كَأَنَّهَا جَانٌّ} [النمل: 10] {فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92]. {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ} [الرحمن: 39]. فقد تفصى عنها أهل الحق وستجدها مشروحة في كتابنا هذا في مظانها إن شاء الله تعالى:
{وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأمن أَوِ الخوف} هم ناس من ضعفة المسلمين الذين لم يكن فيهم خبرة بالأحوال، أو المنافقون كانوا إذا بلغهم خبر من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمن وسلامة أو خوف وخلل {أَذَاعُواْ بِهِ} أفشوه وكانت إذاعتهم مفسدة. يقال: أذاع السرع وأذاع به، والضمير يعود إلى الأمر أو إلى الأمن أو الخوف لأن {أو} تقتضي أحدهما {وَلَوْ رَدُّوهُ} أي ذلك الخبر {إِلَى الرسول} أي رسول الله صلى الله عليه وسلم {وإلى أُوْلِى الأمر مِنْهُمْ} يعني كبراء الصحابة البصراء بالأمور أو الذين كانوا يؤمِّرون منهم {لَعَلِمَهُ} لعلم تدبير ما أخبروا به {الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} يستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكائدها، وقيل: كانوا يقفون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء، أو على خوف واستشعار فيذيعونه فينتشر فيبلغ الأعداء فتعود إذاعتهم مفسدة، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر وفوضوه إليهم وكانوا كأن لم يسمعوا، لعلم الذين يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه وما يأتون ويذرون فيه. والنَبط: الماء الذي يخرج من البئر أول ما تحفر، واستنباطه استخراجه فاستعير لما يستخرجه الرجل بفضل ذهنه من المعاني والتدابير فيما يعضل {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ} بإرسال الرسول {وَرَحْمَتُهُ} بإنزال الكتاب {لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان} لبقيتم على الكفر {إِلاَّ قَلِيلاً} لم يتبعوه ولكن آمنوا بالعقل كزيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة وغيرهما.
لما ذكر في الآي قبلها تثبطهم عن القتال وإظهارهم الطاعة وإضمارهم خلافها قال: {فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ الله} إن أفردوك وتركوك وحدك {لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} غير نفسك وحدها أن تقدمها إلى الجهاد فإن الله تعالى ناصرك لا الجنود، وقيل: دعا الناس في بدر الصغرى إلى الخروج وكان أبو سفيان واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم اللقاء فيها فكره بعض الناس أن يخرجوا فنزلت، فخرج وما معه إلا سبعون ولو لم يتبعه أحد لخرج وحده {وَحَرّضِ المؤمنين} وما عليك في شأنهم إلا التحريض على القتال فحسب لا التعنيف بهم {عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ} أي بطشهم وشدتهم وهم قريش وقد كف بأسهم بالرعب فلم يخرجوا. و{عسى} كلمة مطمعة غير أن أطماع الكريم أعود من إنجاز اللئيم {والله أَشَدُّ بَأْساً} من قريش {وَأَشَدُّ تَنكِيلاً} تعذيباً وهو تمييز ك{بأساً}.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7